مقاربات في التغيير

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد وصحبه أجمعين، عندما أستمع إلى خطاب أو طرْح عن موضوع التغيير فإنه غالبا ما يكون عن إرادة التغيير وأهميته في الحياة، فإما أن يكون موضوعا محفزا للتغيير، أو مشروعا نهضويا ينبني على معنى التغيير، ولم أجد كلاما تفسيريا تحليليا له، ولا يعني هذا أنه لا يوجد مَن قدّم هذا الطرح بقدر ما يعني أنني لم أطّلع على مثله.

“مقاربات في التغيير”، المقاربة تعني في العادة تقريب الكلام النظري لتطبيقه واقعا، ولكنني سأحاول أن أطرح تفسيرًا لعمليات التغيير التي يمر بها الشخص في حياته بالإجابة على بعض الأسئلة، قد يكون بعضها بدهيا ولكن طرحها سيساعد في تسلسل الفكرة.

أولا: هل التغيير عارض في الحياة أم أنه من طبيعتها ؟

يقول هرقليطس: إن التغيير قانون الوجود، وإن السكون موت وعدم.
وقبل هرقليطس يقول الله عز وجل في سورة الانشقاق: “لتركبُنّ طبقًا عن طبق” والمعنى أن الإنسان يتقلّبُ في حياته من حال إلى حال، والشواهد والدلائل على أن التغيّر المستمر على نطاق الفرد وعلى نطاق المجموعة هو طابع الحياة الطبيعية.
ويمكن تمثيل التغيير بدائرة تقع على خط يمثّل منحنى متردد، يتغير مكان هذه الدائرة فوق المحنى مع مرور الوقت وتعرضها للظروف المختلفة، وغالبا ما تكون بداية الدائرة متجهة للأفضل، فإذا أردنا أن ننظر إليها من الجانب الإنساني فـ “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو يمجسّانه أو ينصّرانه”، فهو يبدأ من الصفر في صعود إلى أن يحصل التغيير الخارجي الذي يجعله يغير اتجاهه، وإذا أردنا أن ننظر إليها من الجانب الميكانيكي فجميع الأجهزة والآلات الإلكترونية تكون في أفضل حالاتها التشغيلية أول ما تبدأ وتعمل بأعلى كفاءة، ومع مرور الوقت وتعرّضها للظروف التشغيلية تصل لنقطة حرجة تبدأ عندها بتغيير اتجاه مسارها فوق المنحنى، المنحنى المتغير هذا نفسه، قد يكون صاعدا أو نازلا، ويمكن أن يشرح هذه الفكرة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “لكل عمل شِرَة، ولكل شِرَة فَتْرة” ، فيصفُ حال الإنسان المسلم بشكل عام بأنه في عمل، وهذا يُمثّل صعود المنحنى المتغير، ويصيب عمله هذا أحيانا فتور (فترة) وهذا يمثل تذبذب المنحنى نفسه الذي ترتكز عليه الدائرة كما وضّحتُ مُسبقا.
كلُّ إنسان هو دائرة متغيرة صغيرة يعيش في دائرة كبيرة أو أكثر (وسط بيئي إجتماعي) مثل دائرة الأصحاب، دائرة النشاط الاجتماعي، ودائرة الثقافة أو البلد الذي يعيش فيه …
ولكل دائرة كبيرة منحنى تغيير خاص بها، المنحنى هذا هو قاعدة التغيير التي تسير عليه الدائرة، وهي في الغالب (المنحنيات) تُمثّل القيم والمبادئ، فلو أخذنا دائرة البلد والثقافة مثلا، بالنسبة إلينا فإن قاعدتها التغييرية التي تسير عليها (قيمها ومبادئها) هي القيم والمبادئ الإسلامية، وينطبق الشيء نفسه على الدوائر الأخرى.

ثانيا: ماهي أنواع التغيير ؟

ينقسم التغيير – في نظري – إلى نوعين: كلي وجزئي، التغيير الكلي هو الذي يخرجُ فيه الشخص من دائرة إلى أخرى، فيغير مجموعة الأصحاب مثلا، أو يغير المجموعة التي يشاركها نشاطاته الاجتماعية، أو يغير المدينة التي يسكنها، فيكون تغييرا إنتقاليا للدائرة وقاعدتها القيمية بطبيعة الحال.
والتغيير الجزئي هو الذي يغير فيه الشخص مكانَه ضمن الدائرة ذاتها التي هو فيها، ويُمكن أن يُعبّرَ عنه بالتطوير إذا كان التغيير إيجابيًا، وإذا كان لهذا الشخص تأثير قوي ضمن دائرته فإنه بتطويره لنفسه قد يغير مسار الدائرة (الكبيرة) على قاعدتها القيمية (منحنى التغيير).

ثالثا: ماهي استراتيجية التغيير ؟

يحدث التغيير غالبا بالمرور على أربع مراحل:
١- الاستياء من الحال والشعور بعدم إشباع الاحتياجات ضمن الدائرة المحيطة.
وهذه النقطة هي التي تحدد نوع التغيير الذي سيحدث بعدَها، فقد يبدأ الشخص بالتغيير الجزئي وإذا وجد أنه لم يحصل على النتيجة التي يريدها أو أن الدائرة التي يعيش فيها لا تسمح له بتغييره هذا ينتقلُ إلى الخطوة التي تليها، وهي بداية التغيير الكلي.

٢- البحث عن دوائر أخرى.
ومهمة الرسل والأنبياء هي أن يعرّفوا أقوامهم على دوائر دينية تُلبّي لهم الجوانب الروحية والحياتية، ثم يَتركون لهم الخيار في الانضمام إليها.
والإنسان الذي يبقى مُغلَقا في دائرة معينة ينْحجِبُ عن مراجعة الأفكار الخارجة عنها والنظر فيها، وقد ينْحجِبُ حتى عن بعض الممارسات الخاطئة التي تحدث فيها ويبررها خصوصا إذا كان يشعر بالانتماء الشديد لها.

٣- التعرف على نموذج جديد وإرادة الوصول إليه.
عندما يشعر الشخص أن احتياجاته لا تتوفر في وسط معين فإنه سينتقل إلى الوسط أو الدائرة الأخرى التي تلبي له هذه الاحتياجات.

٤- البدء عمليا في التغيير.
وهي نهاية التسلسل المنطقي للمراحل السابقة.

رابعا: ماهي مشاكل التغيير وكيف نديره؟

مشاكل التغيير في نظري مرتبطة بقاعدة القيم (منحنى التغيير)، فالتغيير عندما يجتاح منطقة معينة ويشمل الجماعات والأفراد فإنه يؤثر بشكل مباشر على القيم والمبادئ (منحنيات التغيير) فتصبح معرضة إلى أمرين:
١- اختلال منحنى التغيير.
٢- أو اختفاءه تماما فيصبح الشخص في دائرة عائمة نسبية.
وتزداد نسبة التأثير السلبي للتغيير كلما كانت المبادئ عند الناس ركيكة، وكانت التربية عليها في المجال التعليمي لأجل تحصيل الدرجات فقط، أو كانت في المجال التربوي مفروضة كعادات وتقاليد عوضا عن أن تكون قناعات مترسخة وقِيَم ثابتة.

والحديث عن إدارة التغيير نقطة مهمة جدا لأنه كما قلت فإن أغلب من يطرح موضوع التغيير يتحدث عن إرادة التغيير فيه وليس إدارته، ولكن إذا افترضنا أن التغيير يجتاحنا في تيار جارف بإرادتنا أو بغيرها (وهو ما يحصل حاليا بوضوح في المجتمعات العربية والسعودية على وجه التحديد)، كيف يمكن أن ننظر له من هذا المنظور والوضعُ كذلك؟

محاولة ضبط التغيير حتى نقلل آثاره السلبية ونوجّهه ليخدم مصالحنا ورسالتنا تحتاج منا إلى أمرين:
١- إعادة صياغة القيم والمبادئ (منحنى التغيير) بما يتوافق مع المتغيرات.
والقيم والمبادئ ثابتة لا تتغير مع مرور الوقت، ولكن طريقة عرضها وطريقة العمل بها تتغير بتغير ظروف الزمان والمكان وطبائع البشَر، وإعادة صياغتها وطرحها بمفاهيم جديدة لا تعني الانجراف مع تيار التغيير ومجاراته في كل شيء، ولكنها تعني أن نتحدث بلغة تتوافق مع الواقع.

٢- استيعاب التغيير ضمن حدود القيم.
من المعروف أن لكل تغيير ممانعة تقف أمامه، وبقدر قوة أحدهما تكون الغلَبَة، ولكنني أؤمن بأن الغَلَبة ليست بالوقوف في وجه كل جديد والتصدي له، ولكن تكون باستغلال المواقف والأحداث وتوجيهها لخدمة الرسالة والأهداف.


تعليقك يُثريني :)

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s