تصل إلى نقطة الصفر في حياتك عندما تفقد ما تملك أو تتخلى عنه ،،
حين تقتلع جذورك من البلد الذي تقطنه وتغادره بلا خطة مرسومة للعودة ،،
حين يكون اليوم الذي تصبح فيه وقد نفذ آخر ما تبقى لك مما كنت تدّخر من مال بعد أن فقدت عملك ،،
حين لا تصبح هناك قيمة تُذكر لأغلب ما لديك مما هو ليس أصلٌ في جسدك؛ مثل مهارة أو صنعة فكرية أو جسدية!
حينها تشعر أنك خرجت من منطقة الراحة الخاصة بك وقد أُغلق الباب الذي خرجت منه وأصبحت في صحراء موحشة لا تجد فيها مُنقذاً.. ولكنك إذا هدأت وتلفتّ حولك فستجد أن عددًا أكبر من خيارات الحياة أصبح متاحًا لك!
وصولك لنقطة الصفر، على ما فيه من الألم والمشقة والمعاناة، فإنه يعني أنك حظيت بفرصة لبدء تجربة جديدة أو حياة جديدة قد لا يحظى بها الكثير، خصوصا في هذا العصر وقد أبدع فيه الإنسان الثورة الصناعية ليصبح هو أحد منتجات خطوط الإنتاج التي يصعب لمن دخل فيها مساراً أن يغيره أو يخرج منه.
ترك لنا التاريخ في سطوره عددا من قصص البدايات الجديدة التي خاضها السابقون، وأنا أنظر لها بكل إعجاب وتقدير. فالمشقة التي كابدوها أثناء ليالي سفرهم الطويلة وعناء الاستقرار في بلد غريبة، ثم مثابرتهم في تحقيق ما ارتحلوا إليه، ترك لنا إرثا قصصيا وحِكما تلهمنا وتفيدنا ..
أتاحت طبيعة الحياة في تلك الأوقات هذه الفرص، فالسفر من بلدة إلى بلدة لطلب علم أو تجارة أو هجرة هو بحد ذاته بداية حياة جديدة إذ يستغرق الطريق وحده أسابيع أو أشهر، ومن يترك بلدةً فقد حكم على نفسه بالانقطاع عنها إلا من خبر يأتي به رسول أو مسافر. ومع هذا فإننا نقرأ عمن جاب العراق والحجاز والشام ومصر واليمن لطلب العلم وسماع حديث رسول الله ﷺ ! فلك أن تتخيل عن خفة مثل صاحب هذا الترحال، وكم هي المرات التي كان فيها لا يملك إلا راحلة وقوت يوم وسكن، وكم هي المرات التي اغتنى فيه وامتلك ما يفيض عن حاجته.
أرى في مثل هذه الأخبار صورة لحياة أقرب ما تكون إلى المثالية؛ فهي أولا تُجاري طبيعة الحياة الدنيا التي لا تستقر على حال وكل ما فيها جهد ومكابدة، ثم إنها تجعل صاحبها حرا خفيفا، وتُثريه عن غيره بالتجارب والمواقف التي خاضها ..
حسنًا ،، إن الحديث عن محاسن القرارات الصعبة والبدايات الجديدة يجعلها تبدو في غاية الرقة واللطف والسهولة، إلا أن الحقيقة أشد سوادًا مما تبدو عليه في نَصّ الرضى! ولا أود أن أستطرد كثيرا فيما يمكن أن يرافق هذه البدايات من سوء ومتاعب وعناء، لأنها كما قلت فهي انعكاس لطبيعة الحياة “كل ما فيها جهد ومكابدة”، ولأننا لن نحتاج إلى نقاش طويل حتى يشاركنا أحد الفضفضة عما يلاقيه من متاعب في أيامه الاعتيادية فضلا عن الأيام المختلفة. وما أود فعله هنا هو تسليط الضوء على جانب آخر في الحياة ..
مع أن مثل هذه الفرص والخيارات لا يمكن أن تتكرر تفاصيلها في حاضرنا لطبيعة التمدن والدولة الحديثة، إلا أن الإنسان مهما وصل من تعقيد في نمط الحياة وشكلها، فإنه لا يمكنه تغيير سنة الحياة الإلهية ولا طبيعتها! بل إن القصص المعاصرة فيها من العجب ما قد يفوق قصص الأولين لما فيها من مخالفة نمط العيش السائد.
فلا زلنا نتعجب مما نسمع من قصص المهاجرين الذين هربوا من بطش دولهم وظلمها، ولا زلنا ننظر بإعجاب لمناضلتهم ومكافحتهم في الحياة وللإنجازات التي حققوها في مواطنهم الجديدة. ولا زلنا نتعجب مما نسمع من قصص من خسر تجارته وأفلس، ولا زلنا ننظر بإعجاب لنهوضهم وعدم استسلامهم واغتنائهم بعد فقر. لا زال هناك من يؤمن بـ “وأرض الله واسعة” و “ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”. ولا زال هناك من يترك أهله وبلده ليغترب سنينا طوالا في طلب العلم. ولا زال هناك رجالُ سوق يؤمنون بـ “دلوني على السوق” كيفما وصل بهم الحال وحيثما ذهبوا.
حياة الإنسان واحدة في كل شيء، لا يمكن أن تتكرر التجربة الأولى فيها أبدا، فالتجربة الأولى تبقى هي التجربة الأولى .. تولد مرة واحدة .. ويكون لك أب مرة واحدة .. طفلك الأول هو طفلك الأول .. الحب الأول هو الحب الأول .. القبلة الأولى هي القبلة الأولى ..
تجربة العلم والعمل والمال هي تجربة واحدة، ولكنك تملك أن تجعل هذه التجربة عريضة ثرية. والوصول إلى نقطة الصفر يتيح لك هذا الخيار، يتيح لك أن تكون عند نقطة بداية عدة طرُق تختار أيها ستسلك، بعد أن كنت في منتصف طريقٍ، العودة إلى أوله أصعب من إكماله! تضيف البدايات الجديدة للإنسان حياة إلى حياته، وتجربة ثرية تُحكى لأبنائه ومن بعدهم.
هناك جانب رقيق جدا في الموضوع .. وهو العناية الإلهية وما يعلّمه الله عز وجل المؤمنين من معانٍ إيمانية؛ تعيد هذه التجارب إلى إدراكك مفاهيم عميقة لحقيقة الحياة، والتي يمكن أن نفهمها عبر عدد من النصوص والأحاديث النبوية العظيمة مثل قوله ﷺ : “لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً”، والحديث القدسي العظيم الذي يقول لنا فيه ربنا: “يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم …” تتأمل هذا الحديث فتدرك كم نحن بعيدون عن استشعار معنى أن كل لقمة تسد جوعنا وكل قطعة تسترنا لن تتيسر إلا إذا يسرها الله، والله يأمرنا بأن نطلب منه تيسيرها. وفي الحديث الأول نجد أن الله عز وجل حصر رزق الطير بالطعام، إذ هذا هو المهم، هذا هو ما يبقيك حيا!
عندما تطرق باب ذهنك هذه النصوص في أحوال أنت أحوج ما تكون إليها، تحمل إليك فهما وإدراكا للحياة مختلفا عن فهمك وتصورك السابق .. ولو لم يكن من حياتك كلها بما فيها من تجارب ومواقف إلا هذا الفهم لكفاك!