الاستقلالية عندي هي قرين الحرية، أن تكون حرا في قراراتك وفي خياراتك، في تفكيرك، في لبسك وأكلك وشربك، في سفرك وترحالك، في قراءاتك، في الحديث عن أفكارك، في التصرف بممتلكاتك …
أن تسير ببوصلتك أنت، فلا يوجهك أحد، ولا يدفعك اختيار شخص إلى اتباعه فقط لأنه اختار لك، سواء كان ذلك لسلطته المباشرة عليك، أو لتأثيره غير المباشر.
هل تبدو الاستقلالية في حديثي نوعًَا من العناد والتعصب الجاهلي الأحمق؟ حسنا، إنها قد تكون كذلك إذا تجاوز الإنسان الحد في استقلاليته، ولكنني أرى المستقل المتعصب خير من المغالي في تبعيته على كل حال، لأن التعصب في الاستقلالية سينتج قوىً متضادة تحاول كل منها إثبات رأيها وموقفها، وهذا يخلق حراكا صحيا في بيئة كهذه، مما يوفر العديد من الخيارات والطرق والأفكار. بينما يؤدي الغلو في التبعية إلى حصر القوى في جهتين أو ثلاثة، ولا يمكن حينها مراجعة الأفكار واستكشاف الخيارات الأخرى التي يمكن للناس أن يتخذوها.
إلى أي مدى يمكن أن يكون الإنسان مستقلا؟
هل يمكن أن يكون ابن عقله ونتاج نفسه؟
لا، لا يمكن أن يختار الإنسان السير في حياته بكامل مكوناتها ومراحلها زاعمًا أن المعارف والخبرات والرسائل التوجيهية المباشرة أو المبطنة التي يستقبلها لن تؤثر في حياته! إن الإنسان سهل التأثر بأبسط المؤثرات، فإذا كان الرسول ﷺ قد اعترف بأن جودة خطاب شخص ما قد يفضي إلى اتخاذ حكم خاطئ، حين اختصم إليه رجلان فقال: “إنما أنا بشر إنما أنا أقضي بينكم بما أسمع منكم، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار” فكيف إذا اجتمعت المؤثرات بين كلمة وصوت وصورة، وزادت كمية الأشياء التي يتفاعل معها الإنسان مع تقارب الناس والتمام العالم كله على بعضه.
وأحب أن أنقل هنا كلاما للدكتور محمد الأحمري حيث يقول في مذكراته: “ودعك من الذين يزعمون أن الإنسان يمكن أن يكون ابن عقله وفكره. إنهم يتنكرون لسنة الله في كونه وعباده، فإنك لاتقرأ -خاصة في شبابك- نصّا إلا انطبع منه في الذاكرة أو النفس أو الخلُق، في زاوية هناك ربما لم ترها أو تبصر بها، ولكن هؤلاء المؤلفين تركوا بضاعتهم في قلبك وعقلك ورحلوا” [مذكرات قارئ، ص342]
وما يمكن أن يفعله الشخص هو أن يدرك أن تكوينه مبني على مُدخلات كثيرة، مترابطة ومعقدة، وأن يحاول اكتشاف المركب النهائي الذي نتج عن هذا الكم الهائل من المُدخلات التي استقبلها طوال عمره، ويدرك أنه ما زال قابلا لأن يتأثر بإعلان دعائي لأحد المنتجات مثلا، ثم بهذه يكون قادرا على أن يشق طريقه باختيار ما يريد أن يستعمله مما لديه، وباختيار ما يريد أن يضيفه إلى علمه وإلى تركيبة شخصيته.
والحقيقة المطلقة، هي أن الشريعة الإسلامية جاءت لإفراد الله بالعبودية، فكلما تحققت عبودية المرء لربه -أي فهم معنى أن يكون عبدا مملوكا لله، كلما تحرر من عبودية غيره من المخلوقات- وانظر إلى قول ربعي بن عامر لرستم: لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وتأمل في الشريعة الإسلامية كيف تضمن للمسلم حقوقه وتدفعه للتحرك في هذه الأرض وهو مرتبط بالله في كل وقت ومكان.
فلن تصل إلى الحرية والاستقلالية من أي تبعية، إلا إذا فهمت مراد الله منك في نفسك وفي غيرك (في الإنسان والحيوان والنبات والجماد والأرض) وحققت العبودية المطلقة له.